بلاغ اختفاء


 لقد اكتشفت اختفائها في ذاك الصباح عندما استيقظت باكرا وأردت الذهاب معها في نزهة، مؤخرا انشغلت عنها ولكن لم أعتقد أنها قد ترحل بعيدا وتختفي، بقيت ذاك الصباح أنتظرها وأنظر للنافذة من حين لآخر لعلها ستعود في أي لحظة، ربما أرادت الانفراد بنفسها بنزهة صباحية، انتظرت حتى الظهيرة ولكنها لم تعد، لذا اتصلت بصديقاتها وتحدثت إليهن لكن لم أجدها بينهن نزلت للشارع ذهبت إلى المقهى الذي كانت تتردد إليه كثيرا، ذهبت إلى المتنزه الذي تحبه وإلى الشجرة ذات الجذع العريض والفروع الكثيرة الكبيرة وبحثت عنها لعلها تستظل بالشجرة وتقرأ كتابا تحتها ولكني لم أجدها.. غابت الشمس وبدأ القلق ينتابني، ذهبت إلى قسم الشرطة وعندما وصلت قابلت شرطيا عند الباب وسألني عن سبب مجيئي، أخبرته أنني أريد تقديم بلاغ اختفاء، قبل أن أدخل أخبرني: كم مضى على اختفائها؟ أخبرته أنني بحثت عنها صباحا ولكني لم أجدها! أمرني بالعودة إلى منزلي لأن إن لم يمضي على اختفاء الشخص 24 ساعة فلا يمكن تقديم بلاغ باختفائه... أربعة وعشرون ساعة من القلق والريبة...أربعة وعشرون ساعة قاتمة وكئيبة...لم أظن في حياتي أن يوما واحدا قد يشعرني أنه دهرا.. رجعت إلى منزلي، جلست على الأريكة في وسط صالة المنزل، أشعلت مصباحا خافتا، لأنني لم أرد أن أرى كل ما يخصها حولي هاهنا، وجلست انتظر الصباح وانتظرها لعل يسبق أحدهما الآخر.

عاد الصباح مرة أخرى وسبقها، نزلت مرة أخرى أبحث عنها في المقاهي والأماكن التي تتردد إليها... لم أجدها،جاء وقت الظهيرة، مرت أربعة وعشرين ساعة من الشوق واللهفة والخوف والترقب.. جريت كما لم أجر من قبل ولم أستطع التفكير بمظهري، ما أرتدي وما أفعل ولكنني جريت هذا كل ما أتذكر... جريت إلى مركز الشرطة بطاقتي المستنزفة التي كنت أدفعها إلى أقصى وجسدي المنهك الذي تناسى كل شيء لأنه أراد لقاءها هو الآخر...

دخلت إلى مكتب الشرطي وقلت: أريد تقديم بلاغ اختفاء! 

رد علي الشرطي وهو ينظر إلى الشاشة:هل مرت أربعة وعشرين ساعة؟! 

أجبت:نعم! أكملت واصفة إياها:إنها فتاة شابة، في العشرينات من عمرها شعرها بني فاتح أقرب للأشقر، عيناها عسلية، وبشرتها بيضاء وعلى وجهها نمش وقصيرة..

 رفع الشرطي رأسه وحدّق في وجهي وأثناء تحديقه الذي لم يتعدى الثلاثون ثانية، أُضرم إعصار في عقلي، وتسللت التخيلات البشعة، هل أصابها حادث وهي الآن في العناية المركزة؟ هل وجدوها منتحرة في مكان ما؟ هل قتلها أحدهم؟ ... اللعنة لماذا يحدق في بهذه الطريقة؟ 

قطع الشرطي أفكاري بسؤال:سيدتي ما اسمها؟

 أجبت: أمل. 

تمتمت وبيني وبين نفسي ولم تمتلك المزيد من الأمل في الآونة الأخيرة.. 

ثم طلب مني بطاقتي مني، أعطيته إياها حدق فيها... صمت مطبق في المكتب، هل هذا هو هدوء ما قبل العاصفة؟ هل أنا على وشك سماع خبر مروع في الثانية التالية؟ أخرج الشرطي ورقة من درجه، وسحب قلما من مقلمة الأقلام الموجودة على طرف مكتبه، وكتب عنوانا واسما لمستشفى وكتب اسم شخص ما، قطع الصمت مرة أخرى: سيدتي أرجو منك الذهاب إلى هذه المشفى ولتسألي عن هذا الشخص، إنه طبيب يعمل فيها، سيساعدك هناك، هذا ما أستطيع تقديمه لك، غضبت منه وقلت ألن تقوم بالبحث عنها؟ ! هل هل هي ميتة هناك أم هل أصيبت بحادث سير ونقلوها إلى هناك، لماذا تتصرف بهذا البرود؟ يبدو أنك لم تفقد أحدا بهذا الشكل من قبل، أراهن أنه لم يختف أحد من حياتك كما اختفت! كان ينظر إلي بنظرة لم أستطع تفسيرها سوى أنها... الشفقة، طلب مني أن اهدأ وأعطاني كأسا من الماء أشحت يده التي تحمل الكأس عني، فسقط الكأس وتناثرت أجزائه في أنحاء المكان، ووقعت أنا الأخرى على الأرض، يبدو أنني فقدت توازني لأنني لم أنم ولم آكل من الأمس، أصبت من أجزاء الكأس المكسورة، ولم أهتم.. قمت سريعا وخرجت من المكتب وأنا في حالة هستيرية وأنزف دما من خدوشي وجريت مجددا...ذهبت إلى العنوان، إنه بصيص الأمل الوحيد لأجد أمل، وصلت للمشفى وسألت عن الطبيب المذكور اسمه في الورقة وطلبت لقاءه، كان شكلي رثا، أنزف دما وأنزف ألما، وأنزف طاقتي في كل لحظة، كل نفس كان بمثابة كفاح من أجل الحياة، بل كفاح من أجل البحث عن أمل حياتي، كلمت الطبيب وسردت عليه القصة كاملة من رغبتي في نزهة معها وصولا إلى بلاغ الاختفاء وما حصل في قسم الشرطة، تعجب الطبيب من تصرف الشرطي كما تعجبت أنا كذلك. قال بصوت يملؤه الطمأنينة سيدتي اهدأي قليلا واوصفي لي شكلها لعلهم نقلوها هنا لذا وجّهك الشرطي إلي... وصفتها كما وصفتها في مركز الشرطة سابقا وأضفت: كانت شخصا مرحا، يلقي الدعابات وهو في أشد ألمه لذا أي أحد يمكنه التعرف عليها ما إذا تم وصف تصرفاتها الغريبة والمضحكة، بدأت تتغير نظرات هذا الطبيب الذي كان يحاول طمأنتي إلى نفس نظرات ذاك الشرطي، نظرة الشفقة مرة أخرى ، طلب مني أن أخبره عنها أكثر، عن تصرفاتها قبل اختفائها وكل تلك الأمور الأخرى، أجبت: حسنا، لقد أهملتها مؤخرا، لذا لا أعرف الكثير لأنني كنت مشغولة في كسب لقمة العيش متجاهلة كل شيء آخر، ولكنني لم أعد أراها، ولم أعد أسمع ضحكتها في أرجاء المكان، والصباحات الأخيرة لم أعد أشم رائحة قهوتها الزكية التي تعدها صباحا، ثم انهمرت دموعي، وقلت: ماذا لو أنها اختفت من قبل الأمس ولكني لم ألحظ ذلك!، رد الطبيب: نعم إن الأمر كذلك، رفعت رأسي ودخلت في حالتي الهستيرية مرة أخرى: ماذا!! هل هي لديكم!! أين هي؟ ما الذي حدث لها؟ أريد أن أراها فورا، عندها كنت واقفة، وضربت كلتا يدي على الطاولة، والطبيب كان جالسا ومحافظا على نفس هدوءه كما اللحظة الأولى التي قابلته فيها، أخرج شيئا من مكتبه، كانت مرآة، قام من كرسيه وربت على كتفي ثم أمسكها ورفع المرآة ووجهها نحوي، ثم قال: إنها أنتِ، أمل إنها أنت!

انفجرت بكاء، لقد كنت أبحث عن نفسي في كل مكان، في منزلي، بين أصدقائي، في أماكني المفضلة، في هواياتي، خرجت ومررت بالكثير من الأسطح العاكسة، ولم أتعرف على نفسي، رددت عليه: الكل يراني ويتعرف علي، ولكن لماذا لم أعرفني، لماذا لم أجدني...

تمت.

تعليقات